فضيحة حلقة الويسكى
الولايات المتحدة الامريكية ، ذلك العملاق الذي يحكم العالم ، لم يخلو تاريخه من الفساد ، فيعج بالحكام والرؤوساء الفاسدون وتتناقل فضائحهم على مر التاريخ ، فها هو الرئيس الثامن عشر للولايات المتحدة الامريكية يولسيس أس . جرانت ، قد نالت سيرته ما نالت من السوء على الرغم من انه لم يتورط في قضية من الفساد بشكلٍ مباشر ، الا أن من حوله زجوا به الى الوصم بالفساد ، فلقد كان جُل خطأ جرانت هو اختياراته الخاطئة.
فضيحة حلقة الويسكى هى عبارة عن فضيحة رشوة أمريكية ، حدثت بين عامى 1871 الى 1875 ، وكان ذلك أثناء فترة حكم الرئيس يولسيس أس . جرانت ، الرئيس الثامن عشر للولايات المتحدة الأمريكية ، ولقد كان الرئيس يولسيس أس رجلا يُشهد له بالنزاهة ، ولكنه أحاط نفسه بعدد من المنتفعين ، فقد تسبب صديقيه المقربين جاى جولد ، وجيمس فيسك ، في حدوث أزمة حادة عصفت بأسواق الاوراق المالية ، وسميت بالجمعة السوداء.
وبدأت القصة قبل انتخابات عام 1872 ، حينما كانت ولاية جرانت الاولى كانت قد أشرفت على الانتهاء ، ففى ذلك الوقت كانت ادارة جرانت قد ابتليت بالفضيحة ، فبدأت بأصدقاء جرانت سيئين السمعة جيمس فيسك و جاي جولد ، حيث حاولوا حصر سوق الذهب بشكل غير قانونى ، فأحدثث ذلك ذعرا ماليا في البلاد ، فقاموا بتقديم الرشاوى ، ومن ثم تم الكشف عن فضيحة تتضمن سعى المشرعين الجمهوريين للفوز بعقود حكومية مربحة لبناء قسم كبير من السكك الحديدية العابر للقارات ، فأدى ذلك الى انشقاق مجموعة من الجمهوريين الليبراليين في ميسوري عن الصف بعد أن أصيبوا بخيبة أمل من الرئيس ، واصبحت فرصة جرانت في اعادة انتخابه مهددة .
لكنت لازال جرانت يحظى بالتبجيل ، باعتباره بطلا للحرب الاهلية ، وفاز في الانتخابات للمرة الثانية عام 1872 ، حيث ألقى العديد من الناخبين باللوم في الفساد السابق على الأصدقاء غير المخلصين الذين عينهم جرانت في الوظائف الفيدرالية.
وفى تلك الاثناء أرسل جرانت أحد الرجال الذين يثق بهم وهو أحد أصدقائه القدامى لولاية ميسورى ، من أجل تعزيز شعبيته السياسية المتراجعة ، والاشراف على عمليات تحصيل الضرائب في دائرة الإيرادات الداخلية بوزارة الخزانة في سانت لويس ، وهو الجنرال جون ماكدونالد ، وذلك للمساعدة في تمويل الحرب الأهلية.
فقام ماكدونالد بتأسيس ما يعرف بحلقة الويسكى ، بالتعاون مع مجموعة من نشطاء الحزب الجمهورى ،
وكانت عبارة عن شبكة إجرامية تآمر فيها كل مقطرى الخمور ، ومسؤولي الخزانة والايرادات الحكوميين ، وكذلك أصحاب المحلات التجارية من أجل التلاعب بالضرائب على الخمور ، وتجنب دفعها.
و كان الجمهوريين قد قامو بزيادة الضرائب الانتقائية على الخمور بعد انتهاء الحرب الاهلية ، على أن يدفعوا ضريبة على الويسكى 70 دولار على الغالون الواحد ، لكن المقطرون المشاركون في حلقة الويسكى كانوا يقومون بدفع 35 دولارا رشوة على الغالون الواحد مقابل ختم الويسكي غير المشروع ، ثم يقوم عمال التقطير بعد ذلك بتقسيم الأموال التي ادخروها في الضرائب غير المدفوعة فيما بينهم ، فنجحت على ذلك مجموعة من السياسيين المشاركين في اختلاس ملايين الدولارات من الضرائب الفيدرالية ، كما ان ماكدونالد ساعد في منع الكشف عن الختم بمساعدة السكرتير الخاص بجرانت وصديقة أورفيل بابكوك في واشنطن.
عين الرئيس جرانت بنيامين هـ. بريستو ليحل محل وزير الخزانة ويليام ريتشاردسون ، الذي استقال بعد تورطه في فضيحة مختلفة ، وعندما علم بريستو بحلقة الويسكى ، كرس نفسه لكسر المخطط ومعاقبة المتورطين ، باستخدام الأدلة التي تم جمعها من قبل المحققين والمخبرين السريين.
وفى عام 1875 تمكن بريستو من الكشف عن ان هناك مسؤولين رفيعى المستوى داخل إدارة جرانت ، قد تأمروا في تلك القضية مع المقطرين ، وأقام بريستو قضية ضد حلقة الويسكي أدت إلى اعتقال أكثر من 300 من أعضاء الحلقة المشتبه بهم .
وقام جرانت بتعيين جون ب. هندرسون ، عضو مجلس الشيوخ الأمريكي السابق من ميسوري ، كمدعي خاص في القضية ، فسرعان ما بدأ هندرسون والمحامون الأمريكيون في توجيه الاتهام إلى المشتبه بهم في حلقة سانت لويس ، التي أبرزها الجنرال ماكدونالد ، كما أشارت الأدلة إلى تورط صديق جرانت منذ فترة طويلة وسكرتيره الشخصي ، الجنرال أورفيل بابكوك ، وأظهرت الرسائل بين بابكوك وماكدونالد إلى أن ماكدونالد كان يحاول رشوة بابكوك لثني جرانت عن النظر في المخطط .
وفي البداية قبل جرانت نتائج التحقيق وهدد بفصل ماكدونالد ، ومع ذلك ، نجح ماكدونالد في إقناع الرئيس بأنه بريء ، بحجة أن المدعين العامين في القضية كانوا لدوافع سياسية ، ومن بينهم وزير الخزانة بريستو ، حيث ادعى ماكدونالد أن بريستو كان يحاول تعزيز فرصه في الفوز بالرئاسة الجمهورية ، ولكن تم بالفعل ادانة ماكدونالد في سانت لويس ، وحُكم عليه بالسجن.
وفي أثناء محاكمة متهم اخر في القضية ، اتهم هندرسون بابكوك بعرقلة العدالة ، ملمحًا إلى أن تورط بابكوك أثار تساؤلات حول دور جرانت المحتمل في الفضيحة. كانت تلك هي القشة الأخيرة لجرانت ، الذي أقال هندرسون من منصب المدعي العام الخاص ، واستبدله بجيمس برودهيد.
وعندما بدأت محاكمة أورفيل بابكوك في سانت لويس ، كان جرانت ينوي الشهادة نيابة عن صديقه ، وذلك بناءً على دعوة من وزير الخارجية هاملتون فيش ، وافق جرانت على عدم الإدلاء بشهادته شخصيًا ولكن على الإدلاء بشهادة في البيت الأبيض تشهد على براءة بابكوك.
وبفضل شهادة جرانت وجدت هيئة المحلفين أن بابكوك بريء ، مما جعله المتهم الرئيسي الوحيد في فضيحة ويسكي رينغ الذي تمت تبرئته ، على الرغم من أن بابكوك حاول استئناف مهامه في البيت الأبيض ، إلا أن الاحتجاج الشعبي أجبره على الاستقالة ، وبعد أيام وُجهت اليه لائحة اتهام ، وتمت محاكمته ، ولكن تمت تبرئته مرة اخرى ، وكان ذلك في مؤامرة السطو الآمن ، وهى فضيحة آخرى داخل إدارة جرانت .
وفي النهاية وبعد انتهاء جميع المحاكمات في تلك القضية ، تم إدانة 110 من 238 شخصًا متهمين في قضية ويسكي رينج ، وتم استرداد أكثر من 3 ملايين من الدولارات من عائدات الضرائب المسروقة .
وعلى الرغم من أن جرانت لم يتم اتهامه بشكل مباشر بأي خطأ في الفضيحة ، الا ان صورته العامة تلطخت ، وتراجعت صورة الرئيس بطل الحرب الى حد كبير ، ويرجع ذلك الى المشاركة المؤكدة لشركائه والمعينين السياسيين وأصدقائه ، واكد جرانت للكونجرس والشعب الأمريكي أن إخفاقاته كانت نتيجة أخطاء في التقدير ، وليست في النية.
وبعد ثماني سنوات من الفضائح ، ترك جرانت منصبه في عام 1876 وغادر مع عائلته في رحلة لمدة عامين حول العالم ، ينما قدم أنصاره المتبقون محاولة لجعله المرشح الجمهوري للرئاسة عام 1880 ، ولكن جرانت خسر الانتخابات .
ولقد ساهمت فضيحة حلقة الويسكي ، جنبًا إلى جنب مع الانتهاكات المزعومة الأخرى للسلطة من قبل الحزب الجمهوري ، في ضجر وطني من السياسة ، مما أنهى رئاسة جرانت مع تسوية صفقة غير مكتوبة تم ترتيبها بشكل غير رسمي بين بعض أعضاء الكونجرس الأمريكي .
خاتمة :-
لربما لم يكن للرئيس الامريكي السابق يدا مباشرة في تلك الفضائح التى لطخت تاريخه وسمعته ، ولكن تلك الثقة التى وضعها في رفاقه والتى لم تكن في محلها ، تلك التى كانت بمثابة المسامير التى دُقت في نعش رئاسته ، فلقد أطُيحت سيرة الرئيس بطل الحرب بصورة تدعو للخجل ، فمهما كانت يديك نظيفتين ، ستلحق باسمك المساويء والتى لربما تكون بريء منها ، ان لم تنتقى جيدا ، وترتقي باختيارك لمن يصلح أن يقود شعبا ، فلن تفيد أو تشفع الصداقات في كثير من الاحيان ، بل ربما تقودك الى حتفك .