فضيحة وثائق فنسن  FinCEN Files

تلعب الولايات المتحدة الأمريكية دورا عالمية في المعركة العالمية تجاه الأموال المشبوهة ، ودائماً ما تلزم البنوك والدول بإصلاح مؤسساتها وممارساتها ، وفي ذلك تقوم بفرض العديد من الغرامات والعقوبات عليهم .

لكن لا تسير الامور دائما وفقا للقانون ، او كما هو من المفترض لها ان تسير ، وناخذ ما قامت به ادارة الرئيس أوباما من قفز على المعايير الدولية بالإفراج وتهريب ملايين الدولارات لجمهورية إيران المصنفة عالمياً بدعم ورعاية الإرهاب خير دليل وشاهد على ذلك .

وهذا يأخذنا إلى تبيان كيفية انسلاخ الدول الغربية وأجهزتها ومؤسساتها مما تزعمه من رسالة وقيم للحرب على غسيل الأموال وتمويل الإرهاب وبنفس الوقت عدم الامتثال لما أقر من معايير دولية لمكافحتهما ، وهو ما يبرز نوعاً من صحة فكرة أن هذه المبادئ لا تعدو عن كونها صناعة غربية للوصاية والتعامل بها بازدواجية فيما يخدم مصالح أمنها القومي .

وواحدة من تلك القضايا التى تؤكد ما نشير اليه هى قضية أو فضيحة وثائق فنسن التى تم تسريبها ، لتكشف عن الكثير والكثير من الفضايح المالية المتورط فيها كيانات عالمية ، وأشخاص مرموقة .

فماهى وثائق فنسن ؟

في البداية يجب أن نشير الى التعريف بشبكة فنسن ، وهي شبكة التحقيق في الجرائم المالية الأمريكية ، وجميع المخاوف بشأن المعاملات المالية التي تتم بالدولار الأمريكي يجب أن يتم إرسالها إلى فنسن FinCEN ، حتى لو حدثت خارج الولايات المتحدة ، وتقارير الأنشطة المشبوهة ، هي مثال على كيفية تسجيل هذه المخاوف ، فيجب على البنك أن يملأ أحد هذه التقارير إذا كان يشعر بالقلق من أن أحد عملائه ربما يقوم بأعمال غير مشروعة ، ثم يتم إرسال التقرير إلى السلطات.

ووثائق فنسن هى وثائق مُسرَّبة من شبكة التحقيق في الجرائم الماليّة (FinCEN) ، وتضم هذه الملفات المسربة  أكثر من 200،000 وثيقة من المعاملات المالية المشبوهة ، والتى تصل الى ما يزيد عن الملياري دولار أمريكى.

ولقد بدأت تلك المعاملات المالية المشبوهة من عام 1999 حتى عام 2017 ، وتورطت فيها كثير من المؤسسات المالية في كثير من الاماكن المختلفة في العالم .

وما تنطوى عليه تلك الوثائق المسربة يشير الى أن الحكومة الاتحادية للولايات المتحدة ، قد تلقت كل تلك المعلومات المالية المشبوهة ، لكنها وبالرغم من ذلك لم تحرك ساكنا ، ولم تفعل شيئا يذكر لوقف تلك الأنشطة على غِرار غسيل الأموال.

وبناء على ما تحمله تلك الوثائق المُسربة يمكننا أن نشير الى اهميتها في أنها تُوضِّح كيف سمحت أكبر البنوك في العالم للمجرمين بنقل الأموال القذرة حول العالم دون حسيبٍ ولا رقيب.

وشبكة التحقيق في الجرائم المالية (FinCEN ) فنسن ، عبارة عن مكتب تابع لوزارة الخزانة الامريكية ، أما بخصوص الدور المنوط به فهو يقوم بجمع وتحليل المعلومات لمكافحة غسيل الأموال وتمويل الإرهاب والتهرب من العقوبات الاقتصادية والجرائم المالية الأخرى ، وتقوم شبكة التحقيق في الجرائم المالية بجمع تقارير الأنشطة المشبوهة والتقارير المطلوب تقديمها من قِبل المؤسسات المالية عندما تشتبه في تورُّطِ عملائها في جرائم مالية.

عملية التسريب :-

وبدأ التسريب عندما حصل موقع باز فيد نيوز BuzzFeed News على عددا من الوثائق المسربة يبلغ عددها 2657 وثيقة مُسربة ، ثم عمل الموقع على مشاركتها مع الاتحاد الدولي للمحققين الصحفيين ، وبدأ نحو 400 صحفى من 88 دولة في التحقيق في التسريبات قبل أن يبدأ في لفتِ أنظار الجمهور لها ، وكان ذلك عام 2020.

ولقد أكد الاتحاد الدولي للمحققين الصحفيين أن معظم تلك الملفات تعود الى الفترة ما بين 2011 الى 2017 ، كما أكد على ان النتائج لا تشمل كل الوثائق المسربة ، بل انها تشمل فقط الـ 2657 وثيقة المشار اليها ، من بين أكثر من 12 مليون وثيقة قدمتها المؤسسات الماليّة لشبكة التحقيق في الجرائم الماليّة فنسن ، بمعنى ان تلك الوثائق التى حصل عيلها الاتحاد الدولى للمحققين الصحفيين لا تمثل أكثر من 0.02% من العدد الفعلي للوثائق .

كما أشارَ موقع باز فيد نيوز إلى أنَّ بعض السجلات والوثائق قد جُمعت كجزءٍ من تحقيقات الكونغرس الأمريكي في التدخل الروسي في انتخابات الولايات المتحدة عام 2016 ، بينما جُمعت وثائق أخرى بناءً على طلبات من الشبكة المالية للتحقيق في الجرائم الماليّة من وكالات إنفاذ القانون.

المتورطون في تلك القضية :-

ويذكر أيضا موقع باز فيد نيوز أسماء عددٍ من البنوك التي تورّطت في ملفات أو وثائق فنسن ، ومن بينهم بنك جي بي مورغان تشيس ، وبنك  إتش إس بي سي ، وستاندرد تشارترد ، وكذلك دويتشه بنك ، وبنك نيويورك مليون ، وما أكدته الوثائق وصرح به الموقع أن الخمسة بنوك متورطون فعليا في قضايا غسيل أموال .

ولقد وجه موقع باز فيد نيوز الانتقادات الى الحكومة الاتحادية للولايات المتحدة وذلك لعدم إجبارها البنوك على وقف هذا النشاط ، كما أفاد باز فيد نيوز بالشراكة معَ الاتحاد الدولي للمحققين الصحفيين أن هناك بنوك أخرى متورّطة في هذه التسريبات ، ومنها أمريكان إكسبريس ، وبنك أوف أمريكا ، وكذلك بنك أف تشاينا ، وباركليز ، ومؤسسة الاستثمار الصينية ، وغيرهم ك سيتي بنك ، والبنك التجاري الألماني، وسوسيتيه جنرال ، فضلًا عن البنك الدنماركي دانسكى بنك ، والذي سنتناول قضيته بالتفصيل ، و فيرست ريبابليك بنك.

ولقد أشار الاتحاد الدولى للمحققين الصحفيين إلى أن 62% من الإيداعات المسربة تخص دويتشه بنك وتتعلق 20% من تلك الإيداعات المشتبه فيها بعناوين في جزر العذراء البريطانية.

وهناك عددا من الشخصيات المعروفة مُشار اليها ، ومُتورط اسمها في تلك الايداعات المُشتبه فيها ، ومن بينهم بول مانافورت مدير حملة الرئيس الامريكي السابق دونالد ترامب ، وكذلك تاجر الذهب الإيراني التركي رضا ضراب ورجل الأعمال الماليزي جو لو ورجل المافيا الروسي سيميون موغيليفيتش.

بالنسبة لورود ذكر ألمانيا في تلك الوثائق ، فنجد أن دويتشه بنك الألماني متورطٌ وبشكلٍ كبيرٍ جدًا في الوثائق المسربة ، ولقد أشارت قناة دويتشه فيله إلى أنّ دويتشه بنك كان مسؤولاً عن معاملات مشبوهة بقيمةِ 1.3 تريليون دولار حتى بعد دفعهِ مئات الملايين من الغرامات لخرقه العقوبات الأمريكية ، كما كشفت تلك الملفات المسربة عن أن دويتشه بنك كان مصدرًا رئيسيًا لغسيل الأموال القادمة من عالم الجريمة المنظمة وتجار المخدرات وقضايا تمويل الإرهاب.

كما أن شركة جيندال للصلب الهندية Jindal Steel and Power ، تورطت هى الاخرى مع دويتشه بنك قي قضايا غسيل الأموال.

ولقد كشفت وثائق فنسن كثير من التفاصيل حول المخطط الذي استخدمه رجل الأعمال الإيرانيّ رضا ضراب للتهرب من العقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران وكذلك من العقوبات المترتبة عن قانون ماغنيتسكي كما كشفت اللثام عن علاقتهِ بمخططات غسيل الأموال الروسية.

كما تورطت شركة خدمات دولية تتخذ من دبلن مقرًا لها ، في تلك القضايا المشبوهة ، حيثُ ساعد مكتبها في العاصمة ريغا عملاء من روسيا والاتحاد السوفيتي (سابقًا) على إنشاء حساباتٍ سريةٍ في بنوك إستونية ولاتفية والتعامل مع شركات وهمية في المملكة المتحدة تشكلت في التسعينيات ، وتُظهر مستندات فنسن أن 646 من أصل 2100 شركة إسكتلندية وإنجليزية تعاملت مع هذه الشركة الأيرلندية الكبيرة.

ومن بين ما كشفت عنه وثائق فنسن المسربة ، أن شركة استشارية للجنة عرض أولمبياد طوكيو ، قامت بدفع 370 ألف دولار لابن لامين دياك العضو السابق في اللجنة الأولمبية الدولية والذي سُجن بتهمِ الفساد في عام  2020.

وتورط أيضا الرئيس المكسيكي السابق إنريكه بينيا نييتو في قضايا غسيل أموال كما أظهرت ذلك وثائق فنسن ، حيث انها كشفت عن ان المجموعة الكبرى المحدودة Group Grand Limited كانت تحت سيطرة رجل الأعمال الكولومبي أليكس ساب وصديقه رجل الأعمال الكولومبي الآخر ألفارو بوليدو.

كما ان الملفات المسربة كشفت عن أن البنوك الأمريكية أخطرت سلطاتها باختفاء حوالي 160 مليون دولار من خلال مجموعة دي إن بي المملوكة جزئيًا للدولة ، ويعود تاريخ بعض تلك العمليات الى عام 2008.

ولقد أظهرت تلك الملفات أيضا أنه في عامي 2013 و2014 سهّل بنك إيتش سي بي سي تحويل 80 مليون دولار من المستثمرين إلى صندوق سوق رأس المال العالمي وهو تسويق هرمي كان البنك على علمٍ به في ذلك الوقت.

كما ان الامارات العربية المتحدة قد ورد ذكرها ايضا في تلك الوثائق ، حيث أنها توضح فشل مصرف الامارات العربية المتحدة المركزى في التصرف بشأنِ العقوبات المفروضة على إيران وتلاعب بعض رجال الأعمال والمستثمرين لتفادي هذه العقوبات.

وبالنظر الى المملكة المتحدة فنجد أن ملفات فنسن تكشفُ عن تورط بنك إيتش سي بي سي في المملكة المتحدة في العديد من التحويلات المالية غير القانونية. كان بنكُ إيتش اس بي سي في ذلك الوقت خاضعًا لاتفاق مقاضاةٍ مؤجلٍ بسبب تورّطهِ في غسيل 881 مليون دولار نيابة عن عصابة كارتل سينالوا.

ولقد كشفت الوثائق أيضا عن أن كوريا الشمالية نفذت مخططًا لغسيل الأموال في الولايات المتحدة باستخدام شركاتٍ وهميةٍ وبمساعدةٍ من الشركات الصينية وذلك لغسل الأموال من خلال البنوك الأمريكيّة.

ردود أفعال البنوك المتورطة في الفضيحة :-

ولقد تواصل موقع باز فيد نيوز مع البنوك المذكورة للرد على الادعاءات ، فامتنعت تلك البنوك الوارد أسماؤها عن الرد ،  مثل بنك أمريكان إكسبريس و بنك الصين و بنك أوف أمريكا وفيرست ريبابليك بنك.

أما بالنسبة لشبكة التحقيق في الجرائم الماليّة فنسن ، فقد اعنلت في 2020 أنها سستقوم باصلاح برامج غسيل الأموال الخاصة بها وذلك بعد بدء الحديث عن تلك الوثائق المسربة ومدى الفساد الذي كشفته ، كما أدانت الشبكة أيضًا التسريب قائلةً إنه قد يُؤثّر على الأمن القومي للولايات المتحدة ويهدد التحقيقات كما يهدد سلامة المؤسسات والأفراد الذين يقدمون التقارير للشبكة.

ومن بين ما كشفته ، تلك الوثائق أيضا ، أن شركتي “بتروكيم للتجارة Petrokim Trading” ، وشركة “الطاقة الزرقاء Blue Energy Ltd” ، أجرت 12 صفقة مشبوهة لصالح نظام الأسد ، بلغت قيمتها نحو 11.7 مليون يورو، بين تموز وكانون الأول 2014.

ولقد أدرجت الولايات المتحدة بعد ذلك شركة “الطاقة الزرقاء Blue Energy Ltd” على قائمة العقوبات ، لمساعداتها المالية لنظام الأسد، بينما نفت شركة “بتروكيم للتجارة Petrokim Trading” انتهاك العقوبات الأميركية على سوريا.

ولقد شاركت شركة “الطاقة الزرقاء Blue Energy Ltd” ، وفقا لما صرحت به الحكومة الأمريكية ، في تسهيل المدفوعات المتعلقة بشحن السفن التجارية للمنتجات النفطية إلى سوريا.

ولقد اتهمت الحكومة الأميركية الشركة المالطية بالمساعدة في ترتيب اتفاق مع سفينة نقل تسمى “تالا”، لتفريغ غاز مسال بقيمة تزيد على مليون يورو في سوريا في شباط من العام 2015.

ومن هنا يتوجب علينا عزيزى المشاهد ان نفصح عن كون وثائق فنسن المسربة ، تؤكد على أن إن مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب كانت ولا زالت يكتنفها نوع من الغموض والمصالح ، لكن ما يهمنا هو كيف نستفيد من ذلك ، ومن تسريب فنسن وغيره من التسريبات ونوظف ما جاءت به من معلومات وفضائح لخدمة قضايانا ومصالحنا ، وهو ما يقتضي دراستها وتحليلها والاستناد إليها متى لزم الأمر سياسياً وقانونياً وقضائياً.

Leave A Comment