فضيحة بليم غيت

وفق ما نعلم ان حياة السياسيين مليئة بالأسرار والغموض وكذلك الفضائح ، وهذه الفضيحة التى أُطلق عليها فضيحة بليم غيت ، والتي أفقدت الرئيس الامريكي جورج  بوش ثقة ومصداقية الشعب الامريكي ، نتيجة لَعب الرئيس بوش بعقول الشعب ، وإيهامهم بما لم يكن موجودا ، وكل ذلك سعيا في تحقيق رغبته المميته في دخول ضلع الفرات العربى العراق ، ومع تلك الاخفاقات والفضائح التي لوثت تاريخ بوش ، الا ان بوش ظل كثيرا بعد ذلك يحاول إيهام الشعب بأنه لا يزال القائد الذي يوجه دفة الأحداث في العالم ، ولم تكن مشاعر العداء نحو بوش تتصاعد في الداخل الامريكي فحسب ، فلقد اتخذت مشاعر العداء منحنى التصاعد في الخارج أيضا.

وعندما نتحدث عن فضيحة بليم غيت أو ما تعرف بفضيحة تسريب وكالة المخابرات المركزية ، هى فضيحة سياسية ، انتشرت بعد أن كشف الصحفى روبرت نوفاك عن هوية فاليري بليم ، وكشف أيضا عن عملها كضابطا سريا في المخابرات المركزية وكان ذلك في عام 2003.

كيف بدأت القصة :-

وبدأت تلك القصة عندما قامت بليم بكتابة مذكرة الى رؤسائها ، وتبدي قلقها في تلك المذكرة حول توكيل زوجها الدبلوماسي السابق جوزيف ويلسون  بمهمة إلى النيجر من قبل وكالة المخابرات المركزية  للتحقيق في ادعاءات نية العراق في شراء اليورانيوم واستيراده إلى البلاد ، ولكن بعد أن قام الرئيس الأمركي جورج بوش بالتصريح في خطاب سمي خطاب حالة الاتحاد عن سعى الرئيس العراقي صدام حسين الى الحصول على كميات كبيرة من اليورانيوم من أفريقيا ، فقالت حينها بليم بعد ذلك التصريح أن زوجها قد يتمكن من المساعدة.

فقام إبراهيم حسن مياكي رئيس وزراء النيجر السابق ، بإخبار ويلسون انه لم يكن على دراية باى عمليات لبيع اليورانيوم ، ولم يتطلع على أى عقود لمبيعات اليورانيوم للدول الفاسدة ، بالأضافة الى أنه لم يتلق اى اتصال سوى من رجل أعمال نيابة عن وفد عراقي وكان بخصوص توسيع العلاقات التجارية مع العراق ، وهذا تحديدا هو مقصد مياكي بقصة مبيعات اليورانيوم ، فإن القصة بالنسبة له عبارة عن تجارة وليس تآمرا ، ولكن على كلٍ فلم يتم ذلك الأمر ، فخلص ويلسون في النهاية الى انه لم يحدث شيئا ، وكتب تقريره ، وأبلغ عن النتائج التي توصل اليها في عام 2002.

وبالرغم من ذلك اجرى الرئيس بوش استعداداته ، وقام بشن الحرب على العراق ، في عام 2003 ، وبعد غزو العراق كتب جوزيف ويلسون سلسلة مقالات نشرت في الصفحات الافتتاحية ، وكان مضمون تلك المقالات ان جوزيف ويلسون يشكك في  الأساس الفعلي للحرب ، حتى  أنويلسون في احدى المقالات التي نشرت في عام 2003  في صحيفة نيويورك تايمز ، قال أن الرئيس بوش لم يقدم في خطاب حالة الاتحاد المعلومات الاستخبارية التي كان سببا في غزو العراق على نحو صحيح ، وبالتالى اقترح بشكل مضلل أن الحكومة العراقية سعت إلى شراء اليورانيوم بغرض تصنيع أسلحة نووية.

وبالرغم من ذلك أشارت الصحفية سوزان شميت في مقالة نشرتها في صحيفة واشنطن بوست ، ان كل من لجنة المخابرات العراقية ولجنة استخبارات مجلس الشيوخ الأمريكي ذكرا في اكثر من مرة أن إدعاءات ويسلون خاطئة ، وقالت أيضا ان تقرير مجلس الشيوخ قد ذكر أن التقرير الذي قدم ويلسون خلال سفرته للنيجر أيد المعلومات الاستخباراتية حول مبيعات اليورانيوم المزعومة إلى العراق ، حتى انه في بعض إصدارات صحيفة بوست ذكرت انه في تقرير جديد لمجلس الشيوخ عن إخفاقات المخابرات وأن السفير السابق جوزيف ويلسون أخبر وكالة المخابرات المركزية أن العراق حاول شراء 400 طنًا من اليورانيوم من أفريقيا ودولة النيجر في عام 1998، ولكن الحقيقة أن تلك الصفقة كانت إيران هى القائمة عليها ، وقام ويلسون بنشر مذكراته في عام 2004 بعنوان سياسات الحقيقة وأنكر فيها ويلسون كل تلك الاستنتاجات والاتهامات التى وجهت اليه بتضليل الحقيقة.

وبعد مرور ثمانية أيام على نشر مقال ويلسون، كتب روبرت نوفاك عن تلك الرحلة التي قام بها ويلسون الى النيجر في عام 2002 ، وما ترتب على تلك الرحلة من نتائج ، كما أن نوفاك ذكر أن بليم زوجة  نيلسون عميلة وكالة الاستخبارات.

وقال نوفاك في مقاله الذي يتحدث عن مهمة ويلسون في النيجر أن اختيار توظيف ويلسون جرى على نحو روتيني دون علم مدير وكالة المخابرات المركزية جورج تينيت ، وأضاف نوفاك قائلا أن ويلسون لم يعمل في وكالة الاستخبارات المركزية مطلقا ، وأن زوجته فاليرى بليم تعمل في مجال أسلحة الدمار الشامل ، كما قال ان هناك اثنان من كبار المسؤولين في إدارة الاستخبارات المركزية قد أطلعاه عللى أن زوجة ويلسون هي من اقترحت إرساله إلى النيجر للتحقيق في قصة يورانيوم العراق ، وذكرت وكالة الاستخبارات المركزية أن مسؤولي مكافحة انتشار الأسلحة النووية هم من اختاروا ويلسون وطلبوا من زوجته الاتصال به ، واضطر ويلسون الى الرد على تلك الادعاءات قائلا لن أجيب على أى سؤال عن زوجتى.

وبعد انتشار تلك القصة قال نوفاك أنه لم يكن يعلم  أن بليم كانت عميلة تحت غطاء رسمي ، وانه لم يخبره أحدا بذلك ، والا لم يكن ليذكر اسمها اطلاقا لو كانه على علم أنها عميلة سرية.

وانطلاقا من تلك الأحداث ، كتب ديفيد كورن مقالًا ونشرته صحيفة ذا نيشن ، وكان هذا المقال بعنوان هل كشف مسؤولو بوش الغطاء عن ضابط مخابرات أمريكي يعمل سرًا في مجال حيوي في الأمن القومي وخرقوا القانون مهاجمة أحد منتقدي إدارة بوش وترهيب الآخرين؟

وأصبحت شعبية الرئيس الأميركي جورج بوش على المحك ، وبات بوش يتعرض لضغوط مكثفة لتقديم اعتذار للشعب الأميركي وإجراء تغييرات جذرية فى البيت الأبيض لتجاوز فضيحة بليم تلك ، كما ان العميلة السرية فاليري بليم قد تلقت التهديدات بعد الكشف عن هويتها حسبما صرح زوجها.

فطلب السناتور هاري ريد زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ من الرئيس بوش الاعتذار هو ونائبه ريتشارد تشيني ، حيث قال أن عليهما توضيح موقفهما للشعب الامريكي ، كما قال بعض الاعضاء الجمهوريين والديمقراطيين في الكونجرس ان بوش بحاجة إلى إجراء تغييرات جذرية في هيكل موظفي البيت الأبيض ، أملا في إنعاش إدارته التي منيت بعدة انتكاسات والتي كانت اخرها فضيحة تسريب اسم العميلة الاستخباراتية الامريكية فاليري بليم.

كما حثوا جميعهم الرئيس الأمريكي على التحقيق مع مكتب نائبه  ديك تشيني والذي استقال كبير موظفيه لويس ليبي ، نظرا الى توجيه عدة اتهامات اليه من بينها الحنث باليمين وغيرها في قضية التسريب الخاصة ببليم ، وتهيأ لذلك  كارل روف كبير مستشاري الرئيس والذي يوصف بأنه المهندس الرئيسي لسياسات بوش ، وانتظر الاشارة للتحقيق في قضية تسريب هوية بليم التي يعد زوجها الدبلوماسي ويلسون من أبرز منتقدي حرب العراق.

وكان للسناتور الديمقراطي تشارلز شومر رؤية أخرى ، حيث كان يرى أنه من الواجب على الرئيس بوش أن يفتح تحقيقا داخليا بنفسه في مكتب نائبه تشيني ، لكى يعرف ماذا حدث ويعمل على وضع بعضا من المعايير التي يجب أن تسير الأمور وفقا لها ، كما أن السناتور الجمهوري لندسي غراهام اتفق مع شومر على ضرورة أن يحقق بوش في مكتب تشيني ، ولكنه أشار الى أن استدعاء تشيني كشاهد في محاكمة ليبي سوف يحدد مما سيدلى به.

وقال السناتور الديمقراطي تشك شومير أيضا ، ان الرئيس بوش لن يستعيد مصداقية إدارته إلا إذا أجرى تحقيقا داخليا في تصرفات تشيني الذي يشتبه الكثيرون في انه قد يكون لعب دورا مهماً في الفضيحة.

ومما يُستدعى ذكره هنا ، هو وصف ويلسون لشعور زوجته عندما كُشف عن اسمها للمرة الأولى ،  حيث قال أنها شعرت وكأنها تلقت طعنة في بطنها وانقطعت أنفاسها ، لكنه أوضح ان زوجته سرعان ما استعادت حيويتها وأدركت أن وظيفتها كعميلة قد انتهت وأنها حاولت بعد ذلك الحد من الأضرار ، فقد كانت بليم قبل الفضيحة تقول إنها تعمل مستشارة لشركة وهمية اخترعتها الاستخبارات الأميركية كواجهة لها ، وقال ويلسون أن الفترة التي قضتها زوجته في العمل في الاستخبارات ، والتي استمرت قرابة عقدين والحياة السرية التي صنعتها لإخفاء عملها السري ، ضاعت كلها هباء حينما كشف عن هويتها الأصلية في مقال بإحدى الصحف.

ومن ثم تعرضت مصداقية البيت الأبيض لضربة أخرى ، والتي تمثلت في ان سكوت ماكليلان المتحدث باسم الرئاسة الأمريكية كان قد نفى تورط أحد من مستشاري الرئيس أو نائبه في قضية التسريب ، حتى ان الرئيس بوش نفسه  كان قد نفى عِـلمه بتورط أي مسؤول في إدارته بتسريب أي معلومات سرية ، والتي من بينها تسريب اسم عميلة المخابرات فاليري بليم ، كما أن بوش تعهد باتخاذ رد الفعل الملائم إزاء أي مسؤول تثبت إدانته ، ولكنه عاد بعد ذلك وأشاد بإخلاص ليبي وتفانيه في خدمة الوطن ، حتى بعد ان وجه اليه الاتهام رسميا ، كما ان الرئيس بوش رفض التعليق على دور مستشاره كارل روف في القضية ، بالرغم أن أعضاء الكونجرس  لكل من الحزب الديمقراطي والحزب الجمهورى ، طالبا الرئيس بوش بإقالته لكى يتمكن هو من تجاوز سلسلة الفضائح تلك.

وتوالت بعد ذلك الازمات والإخفاقات للرئيس الامريكي بوش ، فجاء اعصار كاترينا الذي لم يستطع بوش التعامل معه ، كما ان بوش لم يلتزم بالوفاء بوعوده الانتخابية ، خاصة فيما يتعلق بنظام الضمان الاجتماعي ومشاكل الاقتصاد الأمريكي ، ثم جاء المسلسل الاسطورى لقصة الفشل في العراق ، الى جانب أنه تم الكشف عن سجون سرية تديرها المخابرات الأمريكية في أوروبا الشرقية لتعذيب المشتبه في علاقتهم بالإرهاب ، وعلى إثر ذلك تدهورت شعبية الرئيس بوش إلى أدنى مستوى لها منذ انتخابه ، حيث وصلت نسبة المستائين منه إلى 60%.

كما أشارت استطلاعات الرأى الى أن نسبة 58% من الأمريكيين لا يثقون في صدق وأمانة الرئيس بوش ، ولقد ألقت هذه القضية بظلال أكبر على قضية أهم تشغل الرأي العام الأمريكي ، وهي المأزق الأمريكي في العراق ، حيث طالبت وسائل الإعلام الأمريكية بأن يمتد التحقيق الفيدرالي إلى كشف الحقيقة عما إذا كانت إدارة الرئيس بوش قد تلاعبت بالفعل في معلومات المخابرات ، من أجل تبرير قرار شن الحرب على العراق ، من دون ان تكون لدى الولايات الأمريكية تشير الى ان العراق يهدد الأمن العام للولايات الأمريكية بامتلاكه اسلحة دمار شامل كما هو مزعوم ، او تقديم الادلة التي تؤكد على تورط النظام العراقي بشكل أو بآخر في هجمات سبتمبر الإرهابية.

واكثر من نصف الشعب الأمريكي طالب بعزل الرئيس الأمريكى بوش من منصبه إذا ثبت أنه ضلل الشعب والكونغرس ليشن الحرب على العراق ، كما أن مستوى الخسائر الأمريكية في العراق لم يعد مقبولا ، بالاضافة الى أن أكثرمن نصف الشعب أيضا كان يعتقد أن تلك الحرب لم تسهم في جعل الولايات المتحدة أكثر أمنا في المدى البعيد.

وطالب السناتور الجمهوري جورج فينوفيتشي الرئيس بوش بأن يخبر الشعب بحقيقة الوضع في العراق ، وقام فينوفيتشي بقرأة خطاب تلقّـاه من والد أحد الجنود الذين قتل في العراق ، والذي يصف فيه أن تلك الحرب غير نبيلة ، ودعا فينوفيتشي الكونغرس إلى وقف دعمه المالي لمهمة تسئ بشكل بالغ إلى سمعة الولايات المتحدة في  الخارج ، وتزيد من المشاعر المعادية لها في العالم.

ولقد جاء الدكتور عمرو حمزاوى بالتعليق على تأثير استطلاعات الرأي العام على مكانة الرئيس بوش ، وقال ان الرئيس بوش يحاول اكتساب المزيد من المصداقية بشتى الطرق ، والتى منها اختيار مرشح جديد للمحكمة الدستورية العليا ، على قدر من الخبرة المعترف بها ، الى جانب ذلك سارع بوش بتكليف كل العاملين في البيت الأبيض بحضور دورات في كيفية الالتزام بأخلاقيات العمل لتلافي نوع الفضائح التي وقع فيها بعض المستشارين ، كما ان الرئيس بوش أكد على التزامه بمواصلة الحرب بلا هوادة ضد الإرهاب الدولي ، وقال حمزاوى بصدد الرئيس بوش أن ذاكرة الامريكيين ضعيفة وتتغير بسرعة مع وضوح الإنجازات ، فإذا كان بمقدور الرئيس بوش تغيير الصورة السلبية الضعيفة حاليا، فستتغير نظرة الأمريكيين له.

وبفتح ملفات بعض القضايا الهامة ، لالقاء النظر على رأى وخطة بوش لها في تلك الفترة ، فنجد الملف العراقي الذي ساده التدهور سواء في الوضع الداخلى أو الوضع الخارجي ، حيث خسائر كثيرة في الأرواح ، وانفاق عسكرى كبير ، وبالرغم من هذا الوضع الحرج الا أن بوش سيظل مهتما بالملف العراقي حتى يمكن أن يصل إلى وضع يتمكن فيه من إقناع الشعب الأمريكي بأنه أنجز شيئا هناك.

أما بالنسبة للملف الخاص بعملية السلام ، فنجد أن ذلك الملفى تراجع عن أجندة بوش ، ثم انتقل الملف الى وزارة الخارجية كما يتّـضح من الزيارة التي قامت بها وزيرة الخارجية للمنطقة.

وهناك أيضا ملف نشر الحرية والديمقراطية ، فنجد أن الجهود الامريكية قبل تلك الفترة التي سائت فيها الاوضاع نتيجة قضية التسريب ، وتضليل الشعب من أجل تبرير غزو العراق ، لم تكن متماشية مع التصريحات البراقة بتبني نشر الديمقراطية في الشرق الأوسط الكبير ، وصحيح أن  واشنطن لم تمارس الضغوط المرتقبة لتحريك عملية الإصلاح السياسي في العالم العربي ، ولكن على حكام العرب أن يتوخوا الحذر وألا يخطئوا الحسابات ، ويظنون أن تخلي الإدارة الأمريكية عن وعودها بنشر الديمقراطية ستعفيهم من مواجهة الحراك الشعبي الداخلي ، كالذي حدث في أنحاء عديدة من العالم العربي للمطالبة بالتحول الحقيقي نحو الديمقراطية.

ولعل الخسارة الرئيسية التي سيخرج بها الرئيس بوش من فترتيه الرئاسيتين ، أن تلك الفترتين لم تسفرا عن الوفاء باى من الوعود الداخلية ، ولا حتى بشعارته الرنانة التي حاول ترديدها بأنه الرئيس الأمريكي الذي عمل على إقامة الدولة الفلسطينية ، أو الرئيس الذي تعهد بالتخلي عن سياسة مقايضة الاستقرار في الشرق الأوسط.

Leave A Comment