فضيحة كريدي موبيليه
احتيال بناة الطريق على الحكومة ، ومحاولة كسب النفوذ في الكونجرس من خلال الرشوة ، هذا ما اشتمتلت عليه فضيحة كريدي موبيلييه.
من خلال البحث في القرن الثامن عشر ، وبالتأكيد يمتد لما يسبق ذلك بكثير ، نجد أن تاريخ السياسة حافل بالفضائح ، والمساويء ، والتى تتعدد أنواعها وتختلف باختلاف الزمان والمكان ، والاشخاص ، فلا يخلو من العصور السياسية ما يشوة ويمحق صور رؤوساء ، وزعماء.
واتت تلك الفضيحة التى اشتملت على أسماء متعددة من داخل الكونجرس الامريكي ، والذين امتدت ايديهم لتحقيق الثروة من خلال التربح والاختلاس ، والاحتيال على الحكومة .
ولنعرف كيف اشتملت تلك الفضيحة على هذا الكم من الاسماء الذين وردت أسماءهم في تلك القضية ، وتروطوا في الكسب غير المشروع عت طريق استغلال النفوذ ، علينا أن نعرف مبدأيا ، ما هو كريدى موبيلييه.
اذن فما هى فضيحة كريدى موبيليه ؟
لقد كانت الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة التى كانت فيها الحرب الاهلية تمزق البلاد شرقا وغربا ، تعيش أكبر نزاع دموى شهدته في تاريخها حتى الآن ، حيث ان سنوات القتال بين قوات الاتحاد والكونفدرالية قد أسفرت عن 600 ألف شخص ، وبعدما انتهت تلك الحرب ببضع سنوات ، شهدت الولايات المتحدة الامريكية فضيحة مالية هزت البلاد وعرفت بفضيحة كريدي موبيلييه ، تلك الفضيحة التى جاءت لتغير الخريطة السياسية للبلاد ، وتعصف بالمستقبل السياسي للعديد من كبار الساسة الأمريكيين.
وتعتبر فضيحة كريدي موبيلييه Crédit Mobilier هى فضيحة خاصة بعملية احتيال من جزأين ، وتعود أصول الفضيحة إلى عام 1864 ، عندما استأجر الكونجرس شركة يونيون باسيفيك للسكك الحديدية ، وتأسست شركة كريدي موبيلييه أوف أمريكا ، وقام الكونجرس باستئجار خط سكة حديد يونيون باسيفيك وقدم 100 مليون دولار في استثمار رأسمالي لإكمال خط عابر للقارات غربًا من نهر ميسوري إلى ساحل المحيط الهادئ.
وقامت الحكومة الفيدرالية بعرض مساعدة للسكك الحديدية ، بقرض يتراوح بين 16000 دولار و 48000 دولار لكل ميل من المسار ، وفي المجموع أكثر من 60 مليون دولار ، ومنحة أرض قدرها 20.000.000 فدان ، ولكن العرض لم يجذب في البداية أى مشتركين للحصول على تمويل اضافي حيث أن الظروف المالية لم تكن على قدر كبير من التوافر.
خصوصا ان خط السكة الحديد كان يجب ان يمتد لمسافة 1750 ميلاً عبر الصحراء والجبال ، مما ينتج عنه تكاليف شحن مرتفعة للغاية بخصوص الامدادات ، بالاضافة الى أنه كان هناك خطرا محتملا حدوثه ، كأن يحدث نزاع مسلح مع القبائل المعادية للامريكيين الاصليين ، الذين احتلوا العديد من الأراضي في الداخل ، الى جانب الشكوك التى كانت تساورهم في أن هذا العكمل لن يؤتي ثماره في المراحل المبكرة ، حيث انه لم يكن هناك طلب على شحن السكك الحديدية أو حركة الركاب لكامل المسار المقترح تقريبًا ، وذلك يرجع الى أنه لم يكن بلدات أو مدن من أي حجم في المروج الغربية ، كما ،اه لم يكن هناك نشاط تجارى بين نبراسكا وحدود كاليفورنيا ، ولم يكن هناك أيضا أي خطوط فرعية تعمل إما شمال أو جنوب الطريق المقترح والتي كانت قادرة على تغذية حركة المرور الخاصة بهم إلى خط سكة حديد جديد عابر للقارات ، وكانت تلك الاسباب التى أدت الى أن رفض مستثمرين القطاع الخاص المشاركة والاستثمار.
وبالرغم من ذلك تم النظر الى مخطط السكك الحديدية بأكمله باعتباره ” مشروعًا مستمرًا ” على أنه مؤسسة مجدية مالياً تعتمد على تمويل “أقل من السوق” ومن ثم يمكن أن تستمر في العمل كمشروع تجاري ، وأن المشروع سيغطى التكاليف والنفقات مع بداية التشغيل من خلال ايرادات الركاب والشحن ، وأن ذلك سيوفر الارباح للمستثمرين ومدفوعات الفوائد إلى حكومة الولايات المتحدة لرأس المال المقترض.
ومن ثم قام كل من جورج فرانسيس ترين وتوماس سي ديورانت ، نائب رئيس شركة يونيون باسيفيك للسكك الحديدية بتأسيس شركة كريدى موبيلييه الأمريكية ، واتخاذها كواجهة تقدم الى الحكومة والجمهور مظهر يشير الى ان شركة Train and Durant شركة مستقلة تم اختيارها بشكل محايد كمقاول رئيسي وشركة إدارة إنشاءات .
لكن في الواقع كان مساهمى ومؤسسي شركة كريدى موبيليه ، يستخدمون مرحلة تشييد المشروع بدلا من مرحلة التشغيل لتحقيق الربح ، وذلك لأن المتآمرين اعتقدوا أنهم لا يستطيعون توقع أرباح تقليدية من تشغيل السكك الحديدية ، ولقد أنشأوا الشركة الصورية حتى يتمكنوا من فرض رسوم ونفقات باهظة من الحكومة الأمريكية أثناء مرحلة البناء.
مخطط الاحتيال :-
فلقد كان المخطط يتضمن على بناء السكك الحديدية بمعدلات أعلى بكثير من التكلفة الحقيقة ، وتعاقدت شركة كريدي موبيلييه مع يونيون باسيفيك ، والتي لم يتم تصنيفها بدرجة عالية بسبب عدم اليقين من أن المشروع الضخم يمكن أن يكتمل ، لكن في النهاية حقق خط السكك الحديدية نجاحا ، وحقق أرباحا نتيجة بيع الاراضي ، فبالتالي ذلك النجاح حقق أرباحا الى الأخرين ، والمساهمين الرئيسين في يونيون باسيفيك ، وتم تقسيم الارباح الضخمة بين جميع الاعضاء المساهمين في المخطط .
ولقد كان هذا المخطط الاحتيالي قد تورط به عدد كبير من المسؤولين بمؤسسة يونيون باسيفيك للسكك الحديدية ، قام هؤلاء المسؤولون باختلاس مبلغا يعادل 44 مليون دولار ، عن طريق التلاعب بالعقود ورفع تكاليف البناء ومنح الرشاوى لعدد من كبار المسؤولين السياسيين.
وفي تلك الاثناء قاد المسؤول بمؤسسة يونيون باسيفيك توماس دورانت ، مجموعة المستثمرين والمسؤولين بكريدي موبيلييه الى بيع نسبة من الأسهم بكريدي موبيلييه لعدد من النواب بالكونغرس الأمريكى.
والتى تتضمن قائمة المستفيدين منهم ، الناطق باسم مجلس النواب ، ونائب الرئيس يوليسيس غرانت ، سكايلر كولفاكس ، ومقابل حصولهم على أسهم بأسعار رمزية ، وافق هؤلاء النواب الأميركيون حينها على إخفاء حقيقة مؤسسة كريدي موبيلييه عن الرقابة الفيدرالية التي لم تشكك بادئ الأمر في نزاهتها.
كيف تم كشف مخطط احتيال كريدي موبيلييه :-
في عام 1867 ، تم استبدال توماس ديورانت بأوكس آمس ، وهو عضو في الكونجرس ، والذى اخذ يوزع رشاوى نقدية وأسهم مخفضة من أسهم كريدى موبييليه على زملائه أعضاء الكونجرس والسياسيين الآخرين في مقابل الأصوات والإجراءات ، وتمكن لأولئك الذين يسمح لهم بشراء الأسهم بالقيمة الاسمية المخفضة بدلاً من القيمة السوقية من جني مكاسب رأسمالية هائلة ببساطة من خلال عرض هذه الأسهم المخصومة في السوق ، مع العلم أنه سيتم شراؤها بسعر أعلى من قبل المستثمرين الراغبين في امتلاك أسهم في مثل هذه الشركة المربحة.
وعندما رفض أوكس آمس منح عددا من الاسهم الى المستثمر هنري ماكومب ، اتجه حينها ماكومب لكشف حقيقة كريدي موبيلييه لصحيفة نيويورك سان ، والتى نشرت في عام 1872 تقريرا مفصلا عما عرف بفضيحة كريدي موبيلييه ، والتى ذكرت أن كريدي موبيلييه قد تلقت 72 مليون دولار لبناء خط سكة حديد بقيمة 53 مليون دولار فقط.
وبحسب التصريحات التى أفضي بها ماكومب ، أن المستثمرون بكريدي موبيلييه قاموا باختلاس عشرات ملايين الدولارات عقب تلاعبهم بقيمة عقود تشييد خطوط السكك الحديدية.
كما أنهم قاموا بتقديم فواتير حقيقية ودقيقة إلى حكومة الولايات المتحدة ، كدليل على تكاليف البناء الفعلية ، والتى تم العمل عليها بدقة حتى لا تكشف اى من عمليات الاحتيال والتربح ، حيث أن الاحتيال قد حدث بدرجات عميقة وعلى درجة عالية من الدقة .
وبعد الكشف عن تلك الفضيحة التى تضمنت الاختلاس والاحتيال ، تزايد الغضب ، ومع احتقان الشعب وثورته على اثر تلك القضية ، قام الكونجرس الامريكى بتشكيل لجنة مهمتها التحقيق مع 13 نائبا بمجلسي النواب والشيوخ ، ومع نهاية تلك التحقيقات ، وبّخ الكونغرس الأميركي عام 1873 كلا من أوكس آمس وزميله النائب الديمقراطي عن ولاية نيويورك جيمس بروكس ، بتهمة استغلال المناصب في التربح وتحصيل الثروة ، لكن في المقابل ، تم تبرئة باقى المتهمين الذين ورد اسمهم في القضية ، والذين من بينهم سكايلر كولفاكس ، والرئيس الذي حكم بعد ذلك جيمس غارفيلد ، الذي انتخب رئيسا في عام 1880 حيث انه انكر كل التهم التى وجهت اليه.
وفي عام 1872 ، قدم مجلس النواب (الجمهوري) أسماء تسعة سياسيين إلى مجلس الشيوخ (الجمهوري) للتحقيق معهم النائب ويليام ب. أليسون من ولاية أيوا ، والسناتور السابق جيمس أ. بايارد الابن من ولاية ديلاوير ، والنائب السابق جورج إس بوتويل من ماساتشوستس ، والذي كان يشغل في ذلك الوقت منصب رئيس خزانة الولايات المتحدة ، وكذلك السناتور روسكو كونكلينج من نيويورك.
ومن بينهم أيضا السناتور جيمس هارلان من ولاية أيوا ، والسناتور جون لوجان من إلينوي ، و الممثل جيمس دبليو باترسون من نيو هامبشاير ، والسناتور هنري ويلسون من ماساتشوستس ، وكذلك نائب الرئيس شويلر كولفاكس.
وكل من وردت أسماؤهم كانوا جمهوريين باستثناء بايارد ، وهو ديمقراطي تم استبعاده إلى حد كبير من التحقيق بعد أن كتب رسالة تنصل فيها من أي معرفة بخصوص تلك القضية .
كما تم إجراء تحقيق في وزارة العدل مع آرون إف بيري كمستشار رئيسي ، و خلال التحقيق ، وجدت الحكومة أن الشركة أعطت أسهمًا لأكثر من 30 سياسيًا من كلا الحزبين ، بما في ذلك كولفاكس ، وباترسون ، وويلسون ، والرئيس جيمس غارفيلد ، ولكن تم تبرئتهم فيما بعد.
و خلال العام 1872 ، كان الرئيس جرانت قد حقق النصر في سباقه نحو البيت الابيض ، وبسبب فضيحة كريدي موبيلييه ، وفي ذلك الوقت ، وتلك الفترة العصيبة التى توالت بها الفضائح والجرائم السياسية التى تتعلق بالرشوة والاختلاس على الشعب الامريكي ، فقد الامريكيون ثقتهم في العديد من السياسيين البارزين واتجهوا لتوخي الحذر من سياسة الحكومات الأميركية.
لقد كانت الفترة التى تلت الحرب الاهلية في الولايات الامريكية ، فترة ممتلئة بالفضايح السياسية ، فلم تكن كردي موبيلييه اولها ، أو حتى أخرها ، والذى نتج عنه تفتت وتشوة الصورة المرموقة التى يُنظر بها الى السياسيين ، وفقدانهم مكانتهم بين جماهير الشعب ، ولهذا انصرف الناس في ذلك الوقت عن وضع ثقتهم في الحكام ، الذين خذلوهم في مواضع كثيرة بعد أن وضعوا جُل ثقتهم فيهم.
ي